معنى التحدّي! (4)

نورة آل عمران

أشرتُ في المقالات السابقة إلى ما غفل عنه د. الحمود، في مقاله بعنوان (نحن لسنا الأفضل بالضرورة ولغتنا العربية ليست أفضل اللغات)، (الجزيرة)،

 الأحد 21 صفر 1428ه، المتناغم مع مقال د. محمد العلواني في جريدة ((الحياة)، 2-2-2007)، عن أمر مهم، حين قال: إن اللغة العربية ((أبدا) ليست أفضل اللغات ولا أتمها ولا أكملها بالضرورة)! وتساءلت تساؤلاً منطقيًّا: أكان القرآن معجزاً من مادة غير تامّة ولا كاملة، أم أعجز أناساً في  أمر لا تميّز عظيماً لهم فيه على الناس؟! فأين مكمن الإعجاز عندئذ؟! إن من يريد أن يثبت تحديه في كرة القدم مثلاً فيفوز بكأس العالم، لا بد أن يتغلّب على أعظم فريق في العالم في هذه اللعبة، لا على فريق وسط، أو لا يختلف عن غيره في القوة، وإلا لم يكن لتحديه معنى! فكيف بمعجزة أبدية، قال الله فيها: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} )يونس: 38)؛

تلك هي معجزة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وقد نزلت من جنس لغة العرب، التي لا يراها الحمود أفضل اللغات ولا أتمها ولا أكملها! وهذا هو معنى التحدّي البدهي! فالمعجزات لا تأتي إلا فيما بلغ فيه المتحدَّون أقصى درجات الكمال والتفوّق، ليثبت الله لهم أنهم رغم تفوّقهم الخارق، ومهما بلغوا كمالاً وتناهوا تماماً، فإن الله غالبٌ على أمره! ويلحظ أن د. الحمود يكرِّر الاحتجاج بأن ليس هناك دليل شرعي على أفضلية اللغة العربية على اللغات!

 فهل يعني أن القضية باطلة إن لم يكن عليها دليل شرعي؟! لا أدلة شرعية مثلاً على سيادة اللغة الإنجليزية اليوم، فإذن ليست سائدة! إن وظيفة القرآن لم تكن لإثبات كل القضايا في الوجود، بل لهُدى الناس إلى عبادة الله وحده. والحمود يقع في تناقض آرائه، فهو يقول مثلاً: (إن الكاتب كان ينفي مبدأ (التفاضل بين اللغات) على أساس شرعي، أو الجزم بالأفضلية الشرعية للغة العربية).

 وهذا يعني: عدم الجزم، لكن هناك احتمال أفضلية! كما يقول: ب(نفي الأفضلية الشرعية المطلقة للغة العربية). أي أن هناك أفضلية نسبية لا مطلقة! فبدا الكاتب متوجساً قلقاً، لا يستطيع أن يجزم بشيء، ومع ذلك وافق هواه ما قرأ في الحياة! لكنه بعد أسطر يقول: ((أبدا) ليست أفضل اللغات ولا أتمها ولا أكملها بالضرورة). وواضح أن هيامه بالعربية في قوله (فسأبقى أحب هذه اللغة وأهيم بها وبأهلها، ولكنها (أبدا) ليست أفضل اللغات ولا أتمها ولا أكملها بالضرورة)، مجرد استهزاء؛ لأنه شبه ذلك من قبل بهيام مجانين العشاق، كمجنون ليلى وعنترة. لكن لندع له هذا، ولننظر في هذا التناقض؛ فقبل قليل يقول: لا يمكن (الجزم)، و(بالضرورة)، ولا (دليل شرعي)، وليست أفضلية (مطلقة)،

فكان يحترز في الحكم، ثم وصل هنا إلى الجزم المطلق: (أبداً). وهذه محصلة التناقض التي أراد الخلوص إليها. والغريب من أمره أنه يقول: (لن أدّعي الخوض هنا في الترجيح والتأويل والاستدلال الشرعي، فلست من أهل العلوم الشرعية ولا أدّعي ذلك)! إذن هو ليس من أهل العلوم الشرعية ولا يدّعي ذلك، وليس من أهل العلوم اللغوية العربية كذلك، ولا يدّعي ذلك.. ترى من أهل ماذا إذن،

 وماذا يدّعي بالضبط؟! لقد كان الأولى به أن يكمل حُسن تواضعه، ويحترم التخصص وهو الأكاديمي، فلا يقف حكماً في موضوع ليس في عيره ولا نفيره، لكنه يتبع ذلك بقوله: (لم أجد من الاستدلال شيئاً، عند هؤلاء، ولا من الحجة الشرعية ما يدحض القول بعدم أفضلية اللغة العربية (أفضلية شرعية) نتعبد الله بها لذاتها ولحروفها ولألفاظها ولمركباتها ولبلاغتها ولنحوها ولصرفها.(فبم نتعبدالله حين نقرأ القرآن الكريم، بحروف الإنجليزية أم الصينية؟! بم نصلّي؟! بحروف عربية وألفاظ وتراكيب ونحو وصرف عربي، أم بماذا؟ إن المسلم لا يمكن أن يمارس شعائر دينه حتى يتعلّم من العربية ما يتعبّد الله به، فتعبد الله في الإسلام مرتبط باللغة العربية. حتى الاستشفاء بالقرآن لما في الصدور، والاطمئنان بذكر الله، لا يكون إلا بلسان عربي، وليس بنصوص مترجمة، ولا يسمى المترجَم قرآناً أصلاً! وعليه يبدو أن نفي قداسة العربية بتلك الطريقة يترتب عليه نفي دينيّة الدين الإسلامي!


وقد وصل د. الحمود إلى القول: (وحتى أبدد شيئاً من أقوى حجج المتأولين لأفضلية اللغة بنزول القرآن الكريم بها واصطفائها من بين اللغات لكتاب الله تعالى، فقد ذكر الدكتور محمد صفاء ما يبين أن قدسية وخصوصية القرآن الكريم  وتعبّد الحق تبارك وتعالى لنا بتلاوته، إنما هو لذات القرآن الكريم، وليس لذات اللغة. فإذن، (حتى يبدد)! القضية (تبديد)، ومغالطة، ومكابرة، وليس بحثاً عن الحقيقة!.. وحتى يحقق مآربه سيفعل كذا وكذا! وما ذات القرآن يا تُرى؟ أليست لغته؟! هل له ذات غير اللغة! فالتعبّد بتلاوة القرآن لا يكون إلا بالعربية! لكنه لا يرى في لغة القرآن إلا وعاءً تافهاً، يقارنه بالأوراق التي كُتب عليها  المصحف الشريف، (إنما تكسب قدسيتها، وأحكام مساسها، لما كتب عليها من آيات الذكر الحكيم. وفيما سوى ذلك، فهي لا تعدو أن تكون ورقاً غير ذي قيمة)! هكذا قيمة اللغة العربية لديه!

كما يعيد ويبدئ في الاستدلال بالكتب التي نزلت بلغات أخرى، مع أن الناس يعلمون أن تلك لغات تلك الكتب لم تنزل تحدياً لغويّاً وإعجازاً بيانيّاً، ولا حتى تُعبّد الإنس والجن بتلاوتها إلى يوم القيامة، وليست إلى الناس كافة، ولا للعالمين، كالقرآن! كما أن لها روايات لا أول لها ولا آخر (كثيرة)، وقد وقع فيها التحريف، حتى نُسخت بنزول القرآن. فلا وجه هنا للمقارنة!


وهكذا يخلص د. الحمود، في مقاله، إلى أن (اللغة في أبسط معانيها وعاء للمضمون وللمحتوى، وللثقافة، وأداة للتفاعل بين أبنائها. وفي زمننا الحاضر  الذي تدنت فيه مخرجاتنا الثقافية، وعزّ بيننا التفاعل لعمارة الأرض بما استخلفنا الله فيه، يبدو من غير المعقول أن ندعي الأفضلية لأي من منتجاتنا العربية المعاصرة. قد تكون العربية سادت في زمن مضى، وقد يكون العرب أهل مجد وسؤدد في غابرٍ من الزمن، لكن واقعنا العربي اليوم بكل مركباته اللغوية وغير اللغوية يجعلنا أبعد ما نكون من الأفضلية).

 

وهذا إذن هو المطلوب إثباته لدى الحمود، فاللغة مجرد وعاء! وما دمنا في ذيل العالم اليوم حضارة، فهذا دليل على أن القرآن ليس معجزاً بلغته ذاتها مما يدل على عظمة تلك اللغة! وماذا عن قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}؟! ولا قيمة خاصة للغة العربية على اللغات لتكون اللغة الوحيدة في التاريخ التي نزل بها إعجاز إلهي! كما يلاحظ القارئ خلطه بين اللغة وبين أصحابها! فغير معقول ما يُقال في اللغة العربية؛ لأن العرب لم يعودوا يثبتون ذلك اليوم! لكن الإنجليزية ربما هي المعجزة، وربما ستكون لغة أهل الجنة!! لأن الواقع اليوم يدل على قوتها بقوة أهلها! أما نحن فمجدنا (قد يكون.. في غابر الزمن)، ويلحظ هنا عبارة (قد يكون)، أي حتى الماضي مشكوك في أنه قد كان! وهو في (غابر)! وكاد المريب أن يقول خذوني؛ فعبارات الكاتب تكشف أموراً أخرى في سريرته.(وللحديث صلة). noraalomran@hotmail.com 

هـ م
التقييم:

شكرا على تقييمك
تاريخ أخر تحديث:
هل أعجبك محتوى الصفحة *
السبب
السبب
تاريخ أخر تحديث: