ذلك الخُلق العظيم

الكاتب :   د. محمد الواصل

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين اما بعد :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ ذلكم قول الله سبحانه وتعالى، ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصور، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله، في ميزان الله، لعبدالله، يقول له فيها: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ ومدلول الخلق العظيم، هو ما هو عند الله، مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين، ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد صلى الله عليه وسلم تبرز من نواحٍ شتى، تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، يسجلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله، وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد صلى الله عليه وسلم لتلقيها، وهو يعلم من ربه هذا، قائل هذه الكلمة، ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة، التي يدرك هو منها، ما لا يدركه أحد من العالمين، إن إطاقة محمد صلى الله عليه وسلم لتلقي هذه الكلمة، من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل ولو أنها ثناء ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب، تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك، وفي توازن، هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل، ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة، وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه، ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر، أعظم بصدورها من العلي الكبير، وأعظم بتلقي محمد لها، وهو يعلم من هو العلي الكبير، وبقائه بعدها لا يتكبر على العباد ولا يتعاظم، وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير، لقد كان صلى الله عليه وسلم وهو بشر يثني على أحد من أصحابه، فيهتز كيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم، وهو بشر، وصاحبه يعلم أنه بشر، وأصحابه يدركون أنه بشر، إنه نبي، نعم، ولكن في الدائرة المعلومة الحدود، دائرة البشرية ذات الحدود، إنه أمر فوق كل تصور، وفوق كل تقدير، وهو يستحق التدبر وإمعان النظر فيه لمن أراد فهم بعض ما توحي به الآية، والآية الكريمة وردت في سياق الرد على المشركين الذين اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون وذلك في مكة بعد الإعلان بالدعوة إلى الله، قال تعالى: ﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ فالآيات تنفي عن النبي الجنون، وذلك من نعمة الله تعالى عليه، وتثبت له مكانته الحقة وهي أنه ذو الخلق العظيم، وهذه الشهادة من الله تعالى الذي يعلم الجهر وما يخفى، وهي شهادة بكمال العقل، والله أعلم حيث يجعل رسالته." إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتًا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاَّ وضعت هذه اللَّبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين"، إنه صلى الله عليه وسلم النبي الذي ختمت به النبوة وكمل بنيانها، فلا غرابة أن يكون به كمال مكارم الأخلاق، بل ذلك أمر من لوازم ختم النبوة، فسلوكه صلى الله عليه وسلم وخلقه وتصرفه هو المقياس الذي يرجع إليه في تقويم الأعمال والتصرفات، وأخلاقه صلى الله عليه وسلم هي المقياس الذي تقاس به الأخلاق، وذلك أمر ضروري لأنه مع تغير الأزمنة، وتغير الأجيال، ربما تغيرت القيم فأصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وثمة أمر آخر، وهو الميل إلى التشدد في الأمور، وركوب الصعب منها، وهو انحراف باتجاه آخر، ربما كان ظاهره الاستكثار من الخير، ولكنه في ميزان الإسلام انحراف. وقد حدث هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأنكره، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا فترخص فيه، فبلغ ذلك أناسًا من أصحابه، فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه، فبلغه ذلك، فقام خطيبًا فقال: "ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه، فكرهوه وتنزهوا عنه، فو الله. لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية"، وهكذا غضب صلى الله عليه وسلم لأمر ربما عدَّه القائمون به من التقوى والورع، ولكنه وكما بينه صلى الله عليه وسلم خروج عن المنهج السوي، وإذن فنحن بحاجة إلى المقياس الذي نرجع إليه دائمًا، وسلوكه صلى الله عليه وسلم هو المقياس إذ من مهمته إتمام مكارم الأخلاق ووضعها في صيغتها الصحيحة، وتخليصها مما علق بها من الشوائب، وهكذا تركها لنا صلى الله عليه وسلم بيضاء نقية.

قاله كاتبه

د.محمد بن سليمان الواصل


التقييم:

شكرا على تقييمك
تاريخ أخر تحديث:
هل أعجبك محتوى الصفحة *
السبب
السبب
تاريخ أخر تحديث: