نماذج من العمل التطوعي في القرآن الكريم

الكاتب :   د. محمد الواصـل

بسم الله الرحمن الرحيم

  • نماذج من العمل التطوعي في القرآن الكريم -

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد :

ما كان الإسلام مُغْفِلاً للجوانب التطوعية في هذه الحياة ، بل أظهر بكل جلاء أهمية هذا الأمر ليسعى من خلاله لزرع المحبة والرحمة في هذه المعمورة، والقرآن الكريم كتاب أنزله الله تعالى ليصلح به أحوال العباد والبلاد في الدين والدنيا والآخرة، كتاب يدعو إلى الرقي والترابط بين أفراده، لذا حثنا الله تعالى على العمل التطوعي وضرب لنا أروع الأمثلة على ذلك يقول الله  عز وجل مرغباً في ذلك: ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 110] ويعدد لنا الله تعالى صور العمل التطوعي ويقرنها بالإيمان والتقوى فيقول سبحانه : ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177] ويقول الله تعالى : ﴿ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾[آل عمران: 113- 115] ومن صور العمل التطوعي الإيثار قال الله تعالى : ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9] أي: يقدمون خدمة الآخرين ومصلحتهم العامة على المصلحة الشخصية الخاصة.

  1. صور من العمل التطوعي في القران الكريم :

  • قصة ذي القرنين :

ذو القرنين ملك من الملوك الذين ملكوا الدنيا كلها فدانت له البلاد وخضع له العباد ذكره الله تعالى لنا في القرآن الكريم ليقدم للامة مثالاً للحاكم العادل الذي يجوب الأرض ويمشي في قضاء حوائج الخلق ولقد كان للعمل التطوعي دوراً بارزاً في حياته ودعوته نذكر منها ما ذكره الله تعالى لنا في كتابه.

 

 

  • ذو القرنين وبناء السد :

بيمنا ذو القرنين يجوب في الأرض إذ وقف على يأجوج ومأجوج وهم قوم طبيعتهم الإفساد في الأرض وعندها طلب منه من يجاروهم أن يبني بينهم وبينهم سداً كما قال الله تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ﴾ [الكهف: 93 - 98] فكان بناء السد نعمة عظمى للبشرية وسببًا من أسباب هناء العيش على الأرض " قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا " قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: " خرجًا ": أي أجرًا عظيمًا يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالًا يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سدا، فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير:

" ما مكّني فيه ربي خير " أي إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه كما قال سليمان عليه السلام : " أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم " وهكذا قال ذو القرنين الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات البناء " أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد " والزبر: جمع زبرة وهي القطعة منه.

  • موسى عليه السلام  وتطوعه لسقي الأنعام :

ومن أمثلة العمل التطوعي الذي قصه علينا الرب العلي جل جلاله ما قام به نبي الله موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين مشهد يفيض بالمروءة والشفقة، يقول تعالى : ﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 23، 24]لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين، وصل إليه وهو مجهود مكدود. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى عليه السلام وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء؛ ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء، والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولًا، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما، ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر، ليستريح، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف، بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب: ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ﴾  ﴿ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ [القصص: 23] فأَطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود، إنه الضعف، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال، وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال وثارت نخوة موسى عليه السلام وفطرته السليمة فتقدم لإقرار الأمر في نصابه.

  • قصة الخضر وموسى عليهما السلام وبناء الجدار :

ومن مشاهد العمل التطوعي الذي يقوم به المسلم وهو يرجو به وجه الله ما قام به الخضر وموسى عليهما السلام عندما دخلا القرية وطلب الضيافة ولكن القوم كانوا بخلاء لم يقدموا لهم واجب الضيافة وبينما هما يسيران إذ بجدار اوشك إلا الانهدام فقام الخضر ليصلحه يعاونه في ذلك موسى الكليم عليهما السلام يقول الله تعالى ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الكهف: 77] ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 82] فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته، ولم يطلب عليه أجرًا من أهل القرية وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما كان يخبئ تحته كنزًا، ويغيب وراءه مالًا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة. ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه.. ولما كان أبوهما صالحًا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته.

إن المسلم لابد أن يوقد في روحه جذوة العمل التطوعي ولاد أن يكون مبادراً محتسباً هذا الأمر عند الله عز وجل وفي هذه الروح العالية سيسود بين أوساط المجتمع المسلم نبذ الأنانية وبالتالي سنرتقي بمجتمعاتنا وهذا الأمر حثت عليه الشريعة عبر نصوصها وما سطرته الشواهد النبوية وصحبه الكرام رضي الله عنهم.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قاله كاتبه

د. محمد بن سليمان الواصل


التقييم:

شكرا على تقييمك
تاريخ أخر تحديث:
هل أعجبك محتوى الصفحة *
السبب
السبب
تاريخ أخر تحديث: