القـراءة وبناء الأجيـال

الكاتب :   د. محمد بن سليمان الواصل

بسم الله الرحمن الرحيم 

القراءة وبناء الأجيال 

الحمد لله الذي تفرَّد بالتعظيم تفصيلاً وإجمالاً، وسبحانه أمرنا بكلِّ خيرٍ وارْتَضى لنا سبل السلام، والصلاة والسَّلام على مَن أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبَه، فكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِجميل خصاله وعذْب مقاله قُرآنًا يَمشي بين النَّاس، ورضِي الله عن آلِه وصحْبِه والتَّابعين، هو القائل: ((لأَنْ يؤدِّب الرَّجُل ولدَه خيرٌ من أن يتصدَّق بصاع))، والقائل: ((الرَّجُل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجِها ومسؤولة عن رعيَّتها)).لا شكَّ أنَّ صناعة الأجْيال ليستْ مرهونةً بآمال لا تعليها همَّة صادقة، وليستْ ضربةَ فأْس في أرْض سبخة مالحة غير صالحة للزِّراعة، وليست حشوَ عقول لم يعقد فيها جذوة مشتعلة لا تخبو نارها بِحادثات الدَّهر، ورغبات النَّفس، ووسوسة الشَّياطين. قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]. 

القراءة منهج حياة، والدليل على ذلك أنَّ أوَّل كلمةٍ تلقَّاها النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبدأ بها الوحْي هي "اقرأ" من بين ملايين الكلمات، ومع نبي أمي لا يقرأ، كانت البداية بكلمة "اقرأ"، ومع ردِّ النَّبيِّ بأنَّه لا يُجيد القراءة: ((ما أنا بقارئ)) يتكرَّر الأمرُ وبنفْس الكلمة: "اقرأ"، ومع اعتِذار النَّبيِّ للمرَّة الثالثة بأنَّه ليس بقارئ، يردُّ جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، لقد طلب منه القراءة قبل أن يُخبره أنَّه نبي رسول، فكلمة "اقرأ" هي مفتاح الرسالة، وعنوان الأمَّة، ومنهج حياتِها. 

ومن اللافت للنَّظر أنَّ القرآن الكريم به أكثر من سبعة وسبعين ألفَ كلمةٍ، ومع هذا فقد اختار هذه الكلمةَ ليكون أوَّل أمر من السَّماء إلى الأرض، والمعروف أنَّ وسائل التعلُّم تشمل الاستِماع والكتابة، فلماذا لم يأمُرْه إلا بالقراءة؟ أليس هذا دليلاً على أهميَّة القراءة مهْما انتشرت وسائل العلم وتنوَّعت مصادر المعرفة؟! 

وتبرِز الآيات حقيقة التَّعليم، تعليم الرَّبِّ للإنسان بالقلَم، فالقلم كان وما يزال أوسعَ وأعمق أدواتِ التعلُّم أثرًا في حياة الإنسان، ولولا نعمةُ القلم لم يقُم دين ولم يصلُح عيْش، فعلم الكتابة فيه من المنافع العظيمة، فبدونه ما دوِّنت العلوم، ولا قيِّدت الحِكَم، ولا ضُبطت أخبار الأوَّلين وكتُب الله المنزلة، ثمَّ تبرز الآيات أن مصدرَ التَّعليم هو الله وحده، فمنه يستمدُّ الإنسان العلم وكل ما يفتح به الأسرار ومن أسرار هذه الحياة، فسبحان مَن علَّم بالقلم، ونقَل الإنسان من ظُلْمة الجهل إلى نور العلم. 

إنك لن تستطيع أن تقودَ غيرَك من أهلٍ أو ابنٍ أو طالبٍ أو صديق، لا تتخيَّل ذلك أبدًا، أنت تُهيِّئ الأجواء لقيادتِهم وتغْييرهم، وأوَّل هذه الأجواء أن تقود نفسك، أن تقود سفينتَك من داخلِك، من أعماقك يجب أن يراك ابنُك تقرأ أمامَه حتَّى يقلدك، ابدأِ الآن بنفسِك بوعي وتأمل، وإرادة نابعة من الدَّاخل لا مِن ردود أفعال؛ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، إنَّ من أسهل الأمور أن تنظِّم للآخرين حياتَهم، وتترك الفوضى في قلبك، فإذا أردت أن يكون ابنُك قارئًا فيجب أن تقرأ، ابدأ من نفسك، فأنت لا تملك الآخرين، ابدأ من داخلك، تخلَّص من شعورِك بعدم الاستِطاعة، وتذكَّر قولَ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِلصحابة: ((قوموا فانحروا ثم احلقوا)) في صلح الحديبية، فلم يقُم منهم أحد، فأشارت أمُّ سلمة على الرَّسول أن يبدأ هو، فقام وبدأ، فلمَّا رأى النَّاس ذلك قاموا، حتَّى كاد بعضُهم يقتل بعضًا. 

إنَّ كل الناس يعرفون ما يفعلون، ولكن قلة منهم يفعلون ما يعرفون، فالمعرفة المجرَّدة لا تكفي.وإنَّ أفضل ميراثٍ نتركُه لأبنائنا هو علم جامع، وكتاب نافع، فكلُّنا نحفظ قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إنَّ العلماء ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لَم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذَ بهِ أخذَ بحظٍّ وافر))، فالحظُّ الوافر لِمن ورِث عن والديْه كتابًا نافعًا أخذ عن طريقه علمًا نافعًا.إنَّ توريث الكتُب بما فيها من علمٍ ينفع الأحياء والأموات على حدٍّ سواء، فأبناؤنا يقرؤون وممَّا في الكتُب يتعلَّمون، ونحن في القبور يأتينا الثَّواب، ويؤكِّد ذلك قول النبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إذا مات ابنُ آدم انقطعَ عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له))، فلعلَّ الكتُب التي تورِّثها ابنَك من العِلْم الذي يُنتفع به، وربَّما يُعيرون الكتُب لغيرهم فتكون صدقةً جارية، ومع تواصُل استِفادة أبنائِك وغيرِهم سيستغْفرون الله لك، ويدعونه من أجلك، فتكون في عالم القبور وثوابُك بين الناس موفور. 

قاله كاتبه 

د . محمد بن سليمان الواصل


التقييم:

شكرا على تقييمك
تاريخ أخر تحديث:
هل أعجبك محتوى الصفحة *
السبب
السبب
تاريخ أخر تحديث: