تعميق الصورة الذهنية للوطن والمواطنة: قراءة في هوية اليوم الوطني الثالث والتسعين (نحلم ونحقق)

​لقد شغلت فكرة الصورة الذهنية وبناؤها أو تطويرها وتعميقها أو تدعيمها الباحثين في مجالات الإعلام والاتصال والعلاقات العامة وعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية...، وغيرها من العلوم الإنسانية، واستأثرت بكثير من الدراسات والنظريات العلمية، إذ يمكن من خلالها تطوير التصورات والأحكام والانطباعات الإيجابية تجاه موضوع ما، وتوجيه السلوك الإيجابي تجاهه. وقد كشفت نتائج عدد من تلك الدراسات عن وجود علاقة ارتباطية بين الصورة الذهنية من ناحية والاتجاهات والسلوك من ناحية أخرى، وأنه عندما تتبلور هذه العلاقة فإن الصورة الذهنية تفتقد خاصيتها الديناميكية وتتسم بشيء من الثبات ومقاومة التغيير.

وتتشكل الصورة الذهنية تجاه أي موضوع من خلال الخبرة المباشرة (المعايشة)، وغير المباشرة (الإعلام والسماع...إلخ)، كما أنها تتكون من ثلاثة أبعاد رئيسة، هي البعد المعرفي والبعد الوجداني والبعد السلوكي، وهذه الأبعاد تتكامل وتتداخل فيما بينها؛ لتعميق الصورة الذهنية عن أي موضوع، والمساعدة  على جعل الدلالات عنه أكثر دقة ووضوحًا.

ويعد تطوير الصورة الذهنية عن (الوطن والمواطنة) وتعميقها من الأساليب التربوية والإعلامية الناجعة، التي يمكن من خلالها الخروج من الصورة النمطية لهما إلى تطوير الفهم والاتجاهات نحو القيم الوطنية السامية والالتزام بها، والتغلب على كثير من الإشكالات والممارسات السلبية التي تتعارض مع تلك القيم، وتتعارض _قبل ذلك_ مع تعاليم الدين الإسلامي التي جعلت للوطن وقياداته حقوقًا ومكانة ينبغي الوفاء بها؛ لتحقيق عيش آمن مستقر، وتحقيق الخلافة في الأرض وعمارتها وفق منهج الله وشرعه.

إن الصورة الذهنية للوطن والمواطنة تتمثل في النظر إلى الوطن على أنه المكان الذي يقيم فيه الفرد، وما يرتبط به من مقومات اللغة والتاريخ والثقافة والروابط الاجتماعية والأسرية، والنظر إلى المواطنة على أنها مجموعة من الحقوق والواجبات والانتماء، ولتعميق هذه الصورة ينبغي رفع مستوى الاهتمام بالمكون الوجداني الذي يعزز فكرة الانتماء والولاء والامتزاج بالوطن ومؤسساته وقياداته، والسعي إلى المشاركة في بنائه وتطويره.

إن هذه المرحلة التي تعيشها المملكة العربية السعودية، مرحلة الرؤية المباركة 2030، تتطلب تعميق الصورة الذهنية للوطن والمواطنة لتتواكب مع هذه الرؤية وبرامجها الشاملة والمتنوعة، التي تستهدف البناء والتطوير: بناء الوطن وتطويره؛ ليكون قبلة العالم في مظاهر تطوره العمرانية والاقتصادية، وبناء المواطن ليكون منافسًا عالمياً، وبناء الفكر وتحريره من الجمود والتطرف ليكون تفكيرًا إيجابياً مبدعًا متفاعلًا...

وفي هذا الإطار جاءت هوية اليوم الوطني للملكة العربية السعودية الثالث والتسعين تحت شعار (نحلم ونحقق) لتسهم في تعميق الصورة الذهنية الإيجابية للوطن والمواطنة، بما حملته هاتان المفردتان من معاني غزيرة، ترتكز على المبادئ الرئيسة لتشكيل الصورة الذهنية الإيجابية، المتمثلة في: الحقيقة، والإيجابية، والثبات، والأصالة، وتتسق مع توقعات المواطنين وتفضيلاتهم ومشاعرهم.

في هذا الشعار (نحلم ونحقق) لم يعد اليوم الوطني ارتباطاً بالرمز التاريخي والبيئي فقط، بل أصبح حلمًا للمستقبل، يصوغ فيه الفرد أغلى أمانيه وتطلعاته، وهي تطلعات ستتحول _بإذن الله_ إلى واقع مُشاهَد في ظل الطموحات والتمكين والرؤية التي لا تتوقف عند حدود المتاح الحاضر، بل تمتد إلى المستقبل المأمول.

(نحلم ونحقق) تعبير دقيق عن الفعل الجماعي وليس الفردي، والمشاركة والتعاون وليس التفرد، والمسؤولية المشتركة وليست الفردية، والتفاعل الإيجابي وليس السلبي، وهو تعبير يؤدي إلى البحث عن التميز، ويعزز التحدي ومواجهة الأزمات، ويحفز على الانتماء، ويحقق الاستقرار والرضا.

في هذه الهوية لا ينفصل الماضي عن الحاضر والمستقبل، بل هو امتداد وامتزاج تندمج فيه هذه الأزمنة الثلاثة، يؤسس الماضي للحاضر، ويمهِّد الحاضر للمستقبل، في إطار من التوقعات العالية التي لا يحدُّها سقف، لقد كان استرداد الرياض حلماً فتحقق، وكان توحيد البلاد حلمًا فتحقق، وكانت نهضة الوطن ونماؤه وتطويره حلماً فتحقق...إلخ؛ لأنه كان خلف تلك الأحلام نفوس مؤمنة بقدراتها، متوكلة على خالقها، مستمدة منهجها من شريعة ربها الداعية إلى عمارة الأرض وتسخيرها لتحقيق غاية الخلق ووجود الإنسان.  وهكذا نستلهم من ذلك الماضي أفكار القوة ومنهجية الانطلاق، وها هي الأحلام تمتد وتتعاظم، والطموح يزداد ويعلو، والوقائع توحي بتحققها بإذن الله. وكل عام وأنت في نمو وازدهار أيها الوطن الغالي.

 

د. أحمد بن علي الأخشمي

مستشار وكيل الجامعة للشؤون التعليمية


الثلاثاء 04/03/1445 هـ 19/09/2023 م
التقييم:

شكرا على تقييمك
تاريخ أخر تحديث:
هل أعجبك محتوى الصفحة *
السبب
السبب
تاريخ أخر تحديث: